بعد اثنتي عشرة سنة من الحروب التي خاضتها أميركا في الشرق الأوسط وما ترتب عنها من ضحايا في صفوف الجنود بلغ عددهم 6711 قتيلاً، فضلاً عن الكلفة المالية الباهظة التي تحملها دافع الضرائب والتي تصل قيمتها، حسب التقديرات، إلى أربعة تريليونات دولار، أصبحت رسالة الأميركيين إلى نخبهم السياسية سواء في البيت الأبيض، أو الكونجرس واضحة وصريحة: قللوا من الانخراط الأميركي في الخارج، على الأقل في الوقت الراهن، هذه الرسالة الواضحة يؤكدها عدد من استطلاعات الرأي كان آخرها الاستبيان الذي أجراه معهد «بيو للأبحاث» بتعاون مع "مجلس العلاقات الخارجية الأميركي" ليكشف أن 52 في المئة من الأميركيين الذين تم استجوابهم قالوا إنه «لا يتعين على أميركا التدخل في شؤون الآخرين»، وهي النسبة الأكبر من نوعها منذ أن طُرح سؤال التدخل الأميركي في عام 1964؛ والحقيقة أن هذا التردد الذي يبديه الأميركيون إزاء الانخراط في صراعات خارجية يكاد يعم أميركا بأكملها ولا يقتصر على ولاية دون أخرى، وذلك حتى في الوقت الذي يطالب فيه حلفاء أميركا وأصدقاؤها عبر العالم استخدامها لقنابلها وطائراتها وقيادة تدخلات عسكرية من الأمام وليس من الخلف، وهو ما أكده استطلاع آخر للرأي قامت به مؤسسة «إبسوس جلوبال» خلال شهر سبتمبر الماضي وهم 15 بلداً، كلهم من أصدقاء أميركا، حيث أظهر أن 28 في المئة من المستجوبين يؤيدون تدخلا عسكرياً أميركياً في سوريا، فيما تدنت نسبة التأييد لدى الأميركيين إلى ما دون 27 في المئة. والواضح أن الأميركيين لم تعد لديهم الرغبة في خوض معارك خارج الوطن، ولا الانخراط في التزامات عسكرية طويلة الأمد ترهق كاهلهم وتكبدهم خسائر في الأرواح والأموال، لكن هذا الانكفاء الأميركي الذي يمكن تفسيره بعدم قبول الأميركيين للتدخل الخارجي وتراجع المخصصات المالية المرصودة لموازنة الدفاع يثير سؤالاً ملحاً حول كيف يمكن لواشنطن التركيز على بؤر الصراع والتواترات في العالم التي تهدد بزعزعة الاستقرار وإدامة الصراع؟ ومع الأسف، ورغم أنظمة الإنذار والتحليل المبكرة التي تستفيد منها الحكومة الأميركية في توقع الأزمات، إلا أنه لا وجود فعلياً لعملية رصد علمية ومنهجية لاستباق الأخطار والتهديدات العالمية التي تحتاج إلى تدخل أميركي عاجل سواء عسكرياً، أو دبلوماسياً. ولا وجود أيضاً لنظام يقدم المعلومات أولا بأول إلى صاحب القرار. لذا ولمساعدة المسؤولين الأميركيين وصُنّاع القرار على التصدي للأخطار وصياغة استراتيجيات لاستبقاها مع ما يتطلبه ذلك من إعداد وتحضير قام «مركز العمل الاستباقي» التابع لـ"مجلس العلاقات الخارجية" بإعداد استبيانه السنوي السادس للأولويات الاستباقية، والذي يعكف على تحليل الصراعات القائمة والمحتملة استناداً إلى إمكانية تفجرها في السنة المقبلة وتأثير ذلك على المصالح الأميركية، هذا الاستبيان اعتمد على منهجية واضحة تقوم أولاً على تسخير وسائل التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" و"تويتر" والمدونات الإلكترونية وغيرها لطلب اقتراحات تصل إلى المئات من أي شخص يستطيع الوصول إلى الإنترنيت، وهو ما أتاح لنا تجاوز رقابة وسائل الإعلام التقليدية، ثانياً طلبنا تدخلاً من خبراء "مجلس العلاقات الخارجية" لغربلة تلك الاقتراحات، وحصر نتائجها في ثلاثين اقتراحاً حول الصراعات المحتمل تفجرها في 2014 والتي تستدعي اهتماماً خاصاً من النخبة السياسية الأميركية. وأخير أرسلنا الاقتراحات الثلاثين إلى المسؤولين الحكوميين وخبراء السياسة الخارجية والأكاديميين الذين صنفوا احتمال تفجر الأزمات في 2014 بناء على الاقتراحات المطروحة ومدى تأثيرها على المصالح الأميركية؛ وإليكم النتائج: في الصنف الأول للاقتراحات برزت الصراعات وبؤر التوتر الأكثر إلحاحاً على صانع القرار الأميركي والتي تستدعي اهتماماً خاصاً مثل تصاعد وتيرة الحرب الأهلية في سوريا وتفاقمها بما في ذلك احتمال تدخل أميركي محدود كنتيجة لذلك، واحتمال تعرض الولايات المتحدة لهجوم إلكتروني يستهدف بنيتها التحتية في مجال الإنترنيت، وتجدد التهديد باستخدام القوة العسكرية ضد إيران في حال انهيار المفاوضات النووية، أو ظهور أدلة قوية على وجود نية إيرانية في تطوير أسلحة نووية، وتعرض الأراضي الأميركية لهجوم إرهابي، أو استهداف الإرهاب لأحد حلفاء أميركا، أو تدهور الوضع في كوريا الشمالية بسبب استفزاز عسكري مباشر لدول الجوار، وتعرض باكستان لأخطار أمنية جسيمة بسبب الصراع الداخلي مع المتشددين، أو زعزعة استقرار شبه الجزيرة العربية على يد تنظيم "القاعدة"، الذي ينشط في اليمن، وتعرض الأردن لتهديدات أمنية بالنظر إلى الصراع المستمر في سوريا وتمدده خارج الحدود. أما الصنف الثاني من الأزمات التي يبقى احتمال تفجرها أقل من الأولى، فهي استمرار تدهور الوضع الأمني في مصر، مع ما قد يترتب على ذلك من تنامي للعنف، لا سيما في شبه جزيرة سيناء، وتصاعد العنف الطائفي في لبنان كنتيجة مباشرة لتداعيات الأزمة السورية، وتواصل الصراع في الصومال وتكثيف تنظيم «الشباب» لهجماته على الدول المجاورة، وتعرض ليبيا للمزيد من الأزمات الأمنية التي تهدد استقرارها، واحتمال اندلاع نزاع مسلح في بحر الصين الشرقي مع الجيران بسبب الخلافات الحدودية. وأخيراً هناك الأولويات التي صُنفت على أنها مستبعدة، أو على الأقل لا تؤثر تأثيراً مباشراً على المصالح الأميركية والتي من أهمها اندلاع صراع على الحدود بين الصين والهند، أو انتكاسة الوضع في مالي وزعزعة استقرار البلدان المجاورة ومنطقة الساحل جنوب الصحراء، وعودة الصراع المسلح مجدداً بين تركيا وأكرادها، واشتعال المعارك في جمهورية الكونجو الديمقراطية وتمددها إلى الدول المجاورة، واحتدام الصراع بين المسلمين والبوذيين في ميانمار، وتنامي الصراع السياسي في بنجلاديش قبيل الانتخابات العامة، وتعمق الأزمة السياسية في فنزويلا، التي قد تؤدي إلى حرب أهلية. لكن وبعد هذه التصنيفات الثلاثة طُلب من خبراء السياسة الخارجية في الحكومة الأميركية الإدلاء برأيهم فيما يتعلق بالتهديدات الأخرى التي لم يُشر إليها آنفاً، فكان من بينها اتساع رقعة الصراع السياسي في الصين، واشتعال التنافس بين الدول للسيطرة على القطب الشمالي المتجمد، وتعمق الأزمة السياسية في روسيا مع احتمال تدخلها في جورجيا، وأوكرانيا، هذا ناهيك عن زعزعة استقرار بعض بلدان الشرق الأوسط بالنظر إلى ما يجري في الإقليم من اضطرابات، وهي الصراعات والتوترات التي ترشح 2014 ليكون عاماً آخر ملتهباً. ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»